فصل: تفسير الآيات (13- 18):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (13- 18):

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)}
ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه، ابتدأ تعالى عنهم محاورة أخرى، عاطفاً لها على ما مضى، فقال: {وقال الذين كفروا لرسلهم} مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم: والذي يحلف به! ليكونن أحد الأمرين: {لنخرجنكم من أرضنا} أي التي لنا الآن الغلبة عليها {أو لتعودن في ملتنا} بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل {جعلوا أصابعهم في آذانهم} [نوح: 7] وهو مجاز مرسل، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله {فأوحى إليهم} أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم، مختصاً لهم بذلك {ربهم} المحسن إليهم الذي توكلوا عليه، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم، وأكد لما- لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم- من التوقف في مضمون الخبر ولاسيما إن كان كافراً، قائلاً: {لنهلكن} بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك: إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس {الظالمين} أي العريقين في الظلم، وربما تبنا على بعض من أخبرنا عنه بأنه كفر، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم {ولنسكننكم} أي دونهم {الأرض} أي مطلقها وخصوص أرضهم، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال: {من بعدهم} بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل: هل ذلك خاص بهم؟ فقيل: لا، بل {ذلك} أي الأمر العالي المرام {لمن خاف مقامي} أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه: ماذا تكون عاقبته فيه، وهو أبلغ من: خافني، {وخاف وعيد} لابد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى {واستفتحوا} على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا {وخاب كل جبار عنيد} فأهلكناهم كلهم، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله؛ والعناد: الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً، من عند عن الحق عنوداً، والجبرية: طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر، وعبر عن غفلته عنه بقوله: {من ورائه جهنم} أي لابد أنه يتبوأها.
ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً، بني للمفعول قوله: {ويسقى} أي فيها {من ماء صديد} وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم {يتجرعه} أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله {ولا يكاد يسيغه} ولا يقرب من إساغته، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس {ويأتيه الموت} أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات {من كل مكان} والمكان: جوهر مهيأ للاستقرار، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته {وما هو بميت} أي بثابت له الموت أصلاً.
لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه، والموت: عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية {ومن ورائه} أي هذا الشخص، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لابد منه، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله {عذاب غليظ} يأخذه في ذلك اليوم- مع ما قدمته له في الدنيا- وهو غافل عنه أخذ ما يكون من وراء، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ. فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال: {مثل} وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة {الذين كفروا} مستهينين {بربهم} مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً.
ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما مثلهم؟ فقال: {أعمالهم} أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً- كما قال الحوفي وابن عطية. وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة {كرماد} وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار {اشتدت به الريح} أي أسرعت بالحركة على عظم القوة؛ والريح: جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب، والرياح خمس: شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء {في يوم عاصف} أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث {لا يقدرون} أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله: {مما كسبوا} في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم {على شيء} بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل {ذلك} أي الأمر الشديد الشناعة {هو} أي خاصة {الضلال البعيد} الذي لا يقدر صاحبه على تداركه.

.تفسير الآيات (19- 21):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)}
ولما ذكر الآخرة في أول السورة، ذكر ما هو ثابت لا نزاع فيه، ثم جرّ الكلام إليه هنا على هذا الوجه الغريب، وأتبعه مثل أعمال الكفار في الآخرة، أتبع ذلك الدليل عليه وعلى أنه لا يسوغ في الحكمة في أعمال الضلال إلا الإبطال فقال: {ألم تر أن الله} أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة {خلق السماوات} على عظمها وارتفاعها {والأرض} على تباعد أقطارها واتساعها {بالحق} بالأمر الثابت من وضع كل شيء منها في موضعه على ما تدعو إليه الحكمة لا بالخيال والتمويه كالسحر، ومن المعلوم أنهما ظرف، ولا يكون المظروف الذي هو المقصود بالذات إلا مثل ظرفه أو أعلى منه، فكيف يظن أنه يخلق شيئاً فيهما سدى بأن يكون باطلاً فلا يبطله، أو حقاً فلا يحقه، أم كيف يتوهم أنه- مع القدرة على إخراجهما من العدم وهما أكبر خلقاً وأعظم شأناً- لا يقدر على إعادة من فيهما وهم أضعف أمراً وأصغر قدراً، أو خلقهما بسبب الحق وهو إعادة الناس إعادة يثبتون بها ويبقون بقاء لا فناء بعده، فتسبب عن ذلك أنه عظيم القدرة، فهو بحيث {أن يشأ يذهبكم} أي بنوع من أنواع الإذهاب: الموت أو غيره {ويأت بخلق جديد} غيركم أو يأت بكم بعد أن فنيتم بحيث تعودون- كما أنتم- خلقاً جديداً؛ والجديد: المقطوع عنه العمل في الابتداء، وأصله القطع، فالجد أب الأب، انقطع عن الولادة بالأب، والجد ضد الهزل، يقطع به المسافة حساً أو معنى {وما ذلك} الإذهاب والإتيان على عظمه {على الله} أي الملك الأعلى {بعزيز} وهو الممتنع بوجه من وجوه الامتناع لأنه ليس مثل خلق السماوات والأرض فضلاً عن أن يكون أعظم منه، فلا وجه لقولكم {هل ندلكم على رجل ينبئكم} [سبأ: 7]، الآية لأن من قدر على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فثبت بهذا إبعادهم في الضلال الموجب لهلاك أعمالهم- التي هي أسبابهم- الموجب لهلاكهم.
ولما ثبت بهذا البرهان قدرته على الإعادة بعد الموت، عطف على قوله: {لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم: 18] قوله- بياناً لهو أن البعث عنده وسهولته عليه-: {وبرزوا} أي في ذلك اليوم، عبر بصيغة المضي الذي وجد وتحقق، لأن أخبار الملوك يجب تحققها لقدرتهم وغناهم عن الكذب، فكيف بملك الملوك! وفيه من هز النفس وروعتها ما ليس في العبارة بالمضارع لمن تأمل المعنى حق التأمل {لله} أي الملك الأعظم {جميعاً} فكانوا بحيث لا يخفى منهم خافية على ما هو متعارفهم، لأنه لا ساتر لهم، فإن البروز خروج لشيء عما كان ملتبساً به إلى حيث يقع عليه الحس في نفسه، وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون من العذاب، فتقطعت بهم الأسباب {فقال الضعفاء} أي الأتباع من أهل الضلال بسبب علمهم أنهم في القبضة لا ملجأ لهم، تبكيتاً لرؤسائهم وتوبيخاً، تصديقاً لقوله تعالى:
{الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67] {للذين استكبروا} أي طلبوا الكبر وادعوه فاستتبعوهم به حتى تكبروا على الرسل وأتباعهم ولم يكن لهم ذلك. {إنا كنا} أي كوناً هو كالجبلة {لكم تبعاً} أي تابعين أو ذوي تبع فكنتم سبب ضلالنا، وقد جرت عادة الأكابر بالدفع عن أتباعهم المساعدين لهم على أباطيلهم {فهل أنتم مغنون} أي دافعون {عنا من عذاب الله} أي الذي له العظمة كلها فلا يطاق انتقامه، وأبلغوا بعد التبعيض ب {من} الأولى في التقليل، فقالوا: {من شيء} كأن العذاب كان محتاجاً إلى أخذهم فأغنوه بشيء غيرهم حتى يجاوزهم لو دفعوه عنهم، فكأنه قيل: إن ذلك لعادة الرؤساء، فماذا قالوا؟ فقيل: {قالوا} علماً منهم بأنه لا طاقة لهم على نوع من أنواع التصرف: لا نغني عنكم شيئاً، بل كل مجزي بما فعل، علينا إثم ضلالنا في أنفسنا وإضلالنا لكم، وعليكم ضلالكم وذبكم عنا وتقويتكم لجانبنا حتى استكبرنا فاستغرقنا في الضلال، ولو أن الله هداكم حتى تبعتم الأدلة التي سمعتموها كما سمعناها وتركتمونا، لكسر ذلك من شدتنا وأوهى من شوكتنا، فكان ربما يكون سبباً لهدايتنا كما أنه {لو هدانا الله} أي المستجمع لصفات الكمال {لهديناكم} فكان يكون لنا جزاء اهتدائنا وهدايتنا لكم، ولكم جزاء اهتدائكم وتقويتكم لنا على ذلك، ولكنه لم يهدنا فضللنا وكنتم لنا تبعاً فأضللناكم.
ولما كان الموجب لقولهم هذا الجزع، قالوا: {سواء علينا} أي نحن وأنتم {أجزعنا} والجزع: انزعاج النفس بورود ما يغم {أم صبرنا} لا فائدة لنا في واحد منهما لأن الأمر أطم من ذلك فإنه {ما لنا من محيص} يصلح للمصدر والزمان والمكان، أي محيد وزوال عن المكروه على كلا التقديرين، فلم يبق في الجزاء إلا زيادة العذاب بسوء القالة وانتشار السبة، وهذا الاستفهام ليس على بابه، بل المراد به التنبيه على أنه حالهم مما ينبغي السؤال عنه وترديد الأمر فيه لينتهي عن مثله.

.تفسير الآيات (22- 23):

{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)}
ولما كان الشيطان أعظم المستكبرين، خص بالإفراد بالجواب فقيل: {وقال} أول المتبوعين في الضلال {الشيطان} الذي هو رأس المضلين المستكبرين المقضي ببعده واحتراقه {لما قضي الأمر} بتعين قوم للجنة وقوم للنار، جواباً لقول الأتباع مذعناً حيث لا ينفع الإذعان، ومؤمناً حيث فات نفع الإيمان: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {وعدكم وعد الحق} بأن أرسل إليكم رسلاً وأنزل معهم براهين وكتباً أخبركم فيها بأنه ربكم الواحد القهار، ودعاكم إليه بعد أن أخابتكم الشياطين، وبشر من أجاب، وحذر من أبى، بما هو قادر أتم القدرة، فكل ما قاله طابقه الواقع- كما ترون- فصدقكم فيه ووفى لكم {ووعدتكم} أنا بما زينت لكم به المعاصي من الوساوس وعد الباطل {فأخلفتكم} فلم أقل شيئاً إلا كان زيغاً، فاتبعتموني مع كوني عدوكم، وتركتم ربكم وهو ربكم ووليكم؛ فالآية من الاحتباك: ذكر {وعد الحق} أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، و{أخلفتكم} ثانياً دليلاً على حذف صدقكم أولاً.
ولما بين غروره، بين سهولة اغترارهم زيادة في تنديمهم فقال: {وما كان} لي إليكم في ذلك من ذنب لأنه ما كان {لي عليكم} وأبلغ في النفي فقال: {من سلطان} أي تسلط كبير أو صغير بشيء من الأشياء {إلا أن} أي بأن {دعوتكم} بالوسوسة التي كانت سبباً لتقوية دواعيكم إلى الشر {فاستجبتم} أي أوجدتم الإجابة إيجاد من هو طالب لها، راغب فيها {لي} محكمين الشهوات، معرضين عن مناهيج العقول ودعاء النصحاء، ولو حكمتم عقولكم لتبعتم الهداة لما في سبيلهم من النور الداعي إليها وما في سبل غيرهم من الظلام السادّ لها، والمهالك الزاجرة عنها دنيا وأخرى، وساقه على صورة الاستثناء- وإن لم يكن دعاءه من السلطان في شيء- لأن السلطان أخص من البرهان إذ معناه برهان يتسلط به على إبطال مذهب الخصم إشارة إلى أنهم تبعوه ولا قدرة له على غير هذا الدعاء الذي لا سلطان فيه، وتركوا دعاء من أنزل إليهم من كل سلطان مبين، مع تهديدهم بما هو قادر على عليه وضربهم ببعضه، وفاعل مثل ذلك لا لوم له على غير نفسه {فلا} أي فاذ قد تقرر هذا تسبب عنه أني أقول لكم: لا {تلوموني ولوموا أنفسكم} لأنكم مؤاخذون بكسبكم، لأنه كانت لكم قدرة واختيار فاخترتم الشر على الخير، وعلم منه قطعاً أن كلاًّ منا مشغول عن صاحبه بما جزي به، فعلم أني {ما أنا بمصرخكم} أي بمغيثكم فيما يخصكم من العذاب، فآتيكم بما يزيل صراخكم منه {وما أنتم بمصرخي} فيما يخصني منه لتقطع الأسباب، بما دهى من العذاب، ثم علل ذلك بقوله: {إني كفرت} مستهيناً {بما أشركتمون} أي باتخاذكم لي شريكاً مع الله.
ولما كان إشراكهم لم يستغرق الزمان، أتى بالجار فقال: {من قبل} لأن ذلك ظلم عظيم، ثم علل هذه العلة بقوله: {إن الظالمين} أي العريقين في هذا الوصف {لهم عذاب أليم} مكتوب لكم منهم مقداره، لا يغني أحد منهم عن الآخر شيئاً، بل كل مقصور على ما قدر له، وحكاية هذه المحاورة لتنبيه السامعين على النظر في العواقب والاستعداد لذلك اليوم قبل أن لا يكون إلا الندم وقرع السن وعض اليد.
ولما ذكر الظالمين. أتبعه ذكر المؤمنين، فقال بانياً للمفعول لأن الدخول هو المقصود بالذات: {وأدخل} والإدخال: النقل إلى محيط- هذا أصله {الذين آمنوا} أي أوجدوا الإيمان {وعملوا الصالحات} أي تصديقاً لدعواهم الإيمان {جنات تجري} وبين أن الماء غير عام لجميع أرضها بإدخال الجار فقال: {من تحتها الأنهار} فهي لا تزال ريّاً، لا يسقط ورقها ولا ثمرها فداخلها لا يبغي بها بدلاً {خالدين فيها}.
ولما كانت الإقامة لا تطيب إلا بإذن المالك قال: {بإذن ربهم} الذي أذن لهم- بتربيته وأحسانه- في الخروج من الظلمات إلى النور، وقرئ {وأدخل} على التكلم فيكون عدل عن أن يقول: {بإذني} إلى {بإذن ربهم} للإعلام بالصفة المقتضية للرحمة كما قال تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك} [الكوثر: 1] ولم يقل: لنا- سواء، ومن شكله {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله} [الفتح: 1] فلا تنبغي المسارعة إلى إنكار شي يمكن توجيهه، بل يتعين إمعان النظر، فإن الأمر كما قال الإمام أبو الفتح بن جني في كتابه المحتسب في توجيه {لما يهبط من خشية الله} [البقرة: 74] أن كلام العرب لمن عرفه- ومن الذي يعرفه؟- ألطف من السحر، وأنقى ساحى من مشوف الفكر، وأشد تساقطاً بعضاً على بعض، وأمسّ تسانداً نفلاً إلى فرض {تحيتهم} أي فيما بينهم وتحية الملائكة لهم؛ والتحية: التلقي بالكرامة في المخاطبة، فهي إظهار شرف المخاطب {فيها سلام} أي عافية وسلامة وبقاء، وقول من كل منهم للآخر: أدام الله سلامتك، ونحو هذا من الإخبار بدوام العافية، كما أن حال أهل الباطل في النار عطب وآلام.